العراق الذي لم يعد هناك: مقابلة مع أحمد حبيب
"لماذا أعلم ابني العربية يا علي؟ العراق راح، انتهى". هذا ما قالته لي صديقة من العراق تعيش حالياً في الولايات المتحدة قبل فترة، وفي الحقيقة لم أعرف بماذا أجيبها. ورغم أن التواصل المفترض مع العراق قد يختلف من شخص لآخر- فقد يكون زيارة للعراق، أو حديثاً عنه، أو عن "المنطقة" بشكل عام- فإن هذه المشاعر ليست غريبة على عراقيي الشتات. ففي خضم هذا الشعور المتنامي بالاحباط، نتساءل عن موقع shakomako.net، وهي "مجلة الكترونية حول كل شيء عراقي،" وما الذي تفعله؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه بقاءها في محيط اعلامي يتحدث لغة مختلفة للغاية؟ ومن اين يأتي هذا التصور المهيمن على العقول عن العراق أصلاً؟ وأخيراً، كيف يمكن لمفاهيم بالية مثل "الارهاق من العراق"- وهو إعلام عام أو حتى "بديل" والذي يشعر بأنه غطى العراق بما يكفي- أن ترتبط بالالغاء الذاتي عند العراقيين والعراقيات وبترددهم الشخصي في ملء ذاك الفراغ؟
الكاتب العراقي، أحمد حبيب، الذي يعمل في هيئة تحرير shakomako.net، ترك العراق عام 1981 وتنقل منذ ذلك العام بين تورونتو وأماكن أخرى. ورغم أنه لم يزر العراق منذ عام 2004، فإنه لا يزال يسمي بغداد مدينته. التقى علي عيسى به مؤخراً في مدينة نيويورك حيث حاول أن يسبر غور بعض هذه المواضيع، وبشكل محدد صورة العراق في الإعلام، وكيف أصبح الكثيرون يعتقدون أن العراق سيبقى إلى الأبد بلداً طائفياً، وجبهة حرب مقصوفة: " انتهى".
علي عيسى (ع.ع): كيف نشأت فكرةshakomako.net؟
أحمد حبيب ( أ.ح): نشأت في بيت عراقي في الخليج، ولهذا لم تكن بغداد بعيدة على الإطلاق، فقد كانت في حياة كل فرد من أفراد العائلة، من طريقة كلامنا، إلى طعامنا، إلى علاقاتنا التي بنيناها. وحتى حين انتقلنا إلى مكان أبعد عن العراق، عبر المحيط، لنستقر في تورونتو، كان العراق حاضراً وبقوة. لقد شكلت هذه العلاقة هويتنا كعائلة، وجسدت شوقنا للوطن، وخوفنا مما هو قادم. لقد كانت مصدراً للقوة ورمزاً للتهجير، فنحن لم نكن هنا أو هناك. لقد كنا بحاجة لأن نفهم التجارب التي خضناها، وأن نردم الهوة بيننا وبين أنفسنا. وقد جعلت اللمحات الإخبارية عن العراق هذا الأمر محسوساً بشكل أعمق.
في الوقت الذي كنا نتجه فيه إلى حرب عام 1991- والتي أعادت العراق إلى الخارطة إذا صح التعبير، وأعادت رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة- أردنا أن نفهم التغييرات التي كانت تلوح أمامنا. وفي وقت التعبئة لحرب 2003، عاد العراق ليملأ كل تفاصيل حياتنا مرة أخرى. ذكرياتنا عن المشهد الإعلامي لعملية "عاصفة الصحراء" ترينا كيف أن العراق أصبح كلمة طنّانة منفصلة عن معنى الوطن وقصص الطفولة. في المقابل، أصبح العراق يمثل فقط هدفاً عسكرياً لأولئك الانتهازيين في واشنطن إضافة لمراكز القوة العالمية الأخرى.
لقد كانت صحوة قاسية للكثير من العراقيين والعراقيات في الشتات. ففي حين كان الملايين من العراقيين يعيشون في راحة نسبية في مدن أجنبية، كان الملايين من العراقيين في الداخل يعانون من موت بطئ. وكان من الواضح جداً حاجتنا للتواصل بيننا وبين الوطن. محملين بتناقضات الهجرة، قررت مجموعة من الشباب العراقيين الذين التقوا في الدوحة في 2003 أن يؤسسوا منبراً ليعيدوا سرد قصة العراق الذي كان موجوداً في أذهان الناس حول العالم. وهكذا ولدت مجلة اليكترونية اسمها shakomako.net عام 2004، وخضعت لتغييرات عديدة منذ ذلك الوقت.
لقد كانت قوة العراقيين في مواجهة هجمات ساحقة ومنظمة دمرت حياة الملايين من البشر - خلال الحرب، والعقوبات، والديكتاتورية - أيضاً جزءاً من قصتنا. لقد عبرت مطبوعتنا الإلكترونية عن تقديرها لصمود العراقيين الذين يعيشون في الداخل، وأظهرت تجارب أولئك الذين لم يعودوا يعيشون هناك. لقد كان هذا هو الجواب الذي يضرب به المثل، "شكو ماكو؟" والذي يعني بالعامية العراقية "ما هو الجديد؟".
منذ بدء المشروع، حاولنا أن نخلق فضاءً مفتوحاً أمام العراقيين وأولئك المهتمين بالعراق. وهكذا، فنحن نأمل أن نعرض أصوات الأشخاص الذين ليسوا بالضرورة عراقيين ولكنهم تغيروا تغييرات جذرية بسبب تجاربهم مع العراق. على سبيل المثال، نشرنا قصة نادية دار، والتي تحدثت عن صحوتها السياسية التي تصاعدت بسبب المقاومة لاحتلال العراق في 2003. كما أننا نحاول بنشاط أن نتصل بكتّاب وشعراء ممن يعيشون داخل الوطن لننقل قصصهم إلى جمهور أوسع. مؤخراً، قام محمد حازم، وهو صحفي شاب عاش طوال حياته في بغداد، بكتابة قصيدة تصف بأسلوب ساخر كيف انعدمت أية قيمة للانتخابات في العراق
تماماً بالنسبة له ولجيله.
[ shakomako.com المصدر ]
ع. ع: ما هي الأهداف الأساسية وراء إطلاق النسخة الأخيرة من شكوماكو، التي ظهرت في 14 مارس/آذار 2013 في ذكرى عشر سنوات على الغزو الأمريكي؟
أ.ح: لقد كانت المجلة في حالة سبات منذ سنوات. إنه لتحد كبير أن تبدأ وتشغل مشروعاً إعلامياً مستقلاً لا يعتمد على الاعلان أو التمويل الخارجي وتحافظ عليه، لكن هذا لا يعني أنه من المستحيل أن ينمو المشروع ويكبر. إن التطور في وسائل الشبكة الإلكترونية والإعلام في السنوات القليلة الماضية جعل النشر الذاتي ممكناً وأكثر حيوية. شعرنا أننا مجهزون لإعادة نشر مجلتنا والحفاظ عليها بشكل أكثر استمرارية. ولم يكن بإمكاننا أن ندع ذكرى مرور عشر سنوات على الغزو تمر بهدوء. إحدى الرسائل التي نريد أن نوصلها إلى قرائنا هي أن صناعة وسائل إعلامية مستقلة بديلة تعبر عن مجتمعاتنا، غدت أسهل من ذي قبل وأكثر تمكيناً.
لقد شعرنا بأنه لا يوجد أي تحليل ذي قيمة عن العراق. كل ما نسمعه عن العراق يأتي إما بأسلوب عنصري مغرق في التبسيط للوضع الحالي- قصة العراقيين البدائيين الذين ما زالوا يقتلون بعضهم منذ قرون مضت- أو مرددو تعويذة " اخرج يا محتل!" القديمة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار المراحل المتعددة من الهجمات على العراق- العقوبات الاقتصادية، تراث الديكتاتورية الوحشية، والعزلة الإقليمية. والأهم من هذا، أن هويتنا كعراقيين أخذت بالتشظي، فالقصص التي تصفنا وتهدف لتوثيق التدمير الذي يحيق بنا منسوجة بتعريفات ضيقة لمن هو العراقي، وهذا يتم بشكل رئيس وفق حدود طائفية.
منذ اليوم الأول للغزو الأمريكي، خلق حكام العراق الأمريكيون حكومة مقسمة وفق الطائفة والعرق. وتأثير هذا نشعر به اليوم حيث يعرف المسؤولون في الوزارات العراقية والأحزاب أنفسهم وفق المذهب الذي ينتمون إليه، وليس بموجب برنامج سياسي يرتبط بظروف الاقتصاد المتدهورة في البلاد. نحن نريد لهذه المجلة أن تتعامل مع موضوع الطائفية السياسية المنتشر، ولكن في نفس الوقت تتحدث عن العراق من خلال عدسات متعددة: تحليلات سياسية، وفن وثقافة، وتاريخ وذكريات، وحتى عن طريق كرة القدم.
نريد أن نقدم تحليلاً عن العراق سهل الوصول للقارئ، ويعكس صورة أكبر للعوامل المحركة لما يحدث في العراق، وليس المشاكل والتقلبات لهذه الحركة السياسية الطائفية أو تلك. نريد كذلك أن نظهر أن العراق ككيان ليس فقط اسماً على ملصق أسفل شاشة التلفزيون، ولكن يوجد أناس حقيقيون خلف اسم العراق. وأن العراق ليس مجرد اسم يصف مشروعاً جيوسياسياً أو إمبريالياً. إن أي تحليل لا يضع الناس في المقدمة يمكن أن ينظر إليه على أنه سطحي، وتبسيطي وفي بعض الأحيان عنصري. إنه يعكس الطرق الإشكالية التي نصنع عن طريقها روايتنا عن الآخر، حتى لو كانت النية هي أن نظهر تضامننا مع جماعة مضطهدة. لقد طُبعت كلمة عراق تريليونات المرات، ولكنها قليلاً ما كانت تعكس القصص الإنسانية لذلك المكان. ولهذا يجب علينا أن نقاوم محاولة تحويل تاريخ التدمير في العراق إلى مقولة مثيرة مثل "لا تجعلوا إيران كالعراق" أو “Don’t Iraq Iran”. يجب أن ننخرط على مستويات أكثر عمقاً، ولهذا نحن نحاول أن نظهر الصور المختلفة لماهية العراق، وكيف أن الحرب والسياسة تؤثران على كل مناحي الحياة، كالثقافة والرياضة. في كل مقابلاتنا مع لاعبي كرة القدم ، على سبيل المثال، كان الشيء الذي أجمعوا على ذكره: كيف أن العالم حولهم انعكس في المباراة نفسها، وكيف أن كرة القدم يمكن أن تكون قوة موحدة في بلد يتشرذم.
ع.ع: هناك نقطة مهمة أثيرت في واحدة من الدعوات الأولية لدعم shakomako.net من إحدى الملاحظات على الفيسبوك والتي قالت: " بالنسبة للكثير من المنظمين، مثل عام 2003 فترة حرجة في زيادة راديكالية التنظيم السياسي. فقد احتل الملايين من الناس الشوارع في المدن الرئيسة حول العالم ليتظاهروا ضد المذبحة التي كانت تنتظر العراقيين." كيف تقرأ هذا في ضوء تراجع النشاط الخاص بالعراق الذي تم تنظيمه في السنوات اللاحقة مثل عام 2008 مثلا؟
أ.ح: إنه من المخزي حقيقة كيف اختفى العراق من المسار السياسي. لقد دفن العراق في أنقاض دماره. الناس إما خائفون جداً أو أكسل من أن يتمعنوا في الوضع ويربطوا بين العراق والتطورات الأخرى في المنطقة والعالم. بين عامي 2007-2008، اشتعلت الحرب الأهلية في العراق التي أزهقت أرواح مئات الآلاف من الضحايا. وتدفق ما يقرب من خمسة ملايين عراقي وعراقية على دول الجوار. لقد كانت عُرى البلد تتمزق، وكان الناس يواجهون تعقيدات لا يمكن فهمها بأي منظور تحليلي. وعوضاً عن التعامل مع هذه التعقيدات فقد اختار الناس أن يغضوا النظر. إضافة لهذا، فقد أضحى التضامن الدولي مع العراق أحد ضحايا الحرب، فعمل المجتمع المدني حول العالم يتم تجريمه والتقليل من شأنه والهجوم عليه باستمرار، ولم يكن النشاط الخاص بالعراق استثناءً من هذه الحالة.
لقد كان محبطاً أن نرى ما يحدث. الكثير من الأشخاص والشركات المنتفعين من تدمير العراق منخرطون بفعالية في تدمير المجتمعات المهمشة حول العالم. نريد من الناس أن يربطوا بين هذه الأمور وبعضها. نأمل أن تستطيع المجل توفير مساحة للأشخاص ليثقفوا أنفسهم حول العراق، والأهم من هذا هو استعمال المعلومات المتوفرة لمواجهة من ينتفع من الحروب في مجتمعاتهم. لقد نشرنا مؤخراً مقالة حول طريقة الدعاية التي يتبعها الجيش الأمريكي لاستهداف الشباب السود في حملات التجنيد. ظهر المقال أثناء المقاومة المنظمة في شيكاغو ضد العنف المسلح وإغلاق المدارس الذي أمر به رام إيمانويل، عمدة المدينة و أكبر مستشاري الرئيسين بيل كلنتون وأوباما. هذا هو رام إيمانويل نفسه الذي طالما برر الحرب على العراق. هذه العلاقات لا حصر لها وموجودة في كل مكان حول العالم.
ع.ع: تتمحور مقالات شكوماكو عادة حول فكرة أن العراقيين أبدوا صموداً في وجه التدمير، أو كما يقول عنوان مقال نضال الخيري "القوة في مواجهة المقاتلات النفاثة". لماذا يعد هذا التركيز مهماً، وما هي التبعات التي ينتجها هذا التأطير لمجتمعات أخرى والتي تصور عادة على أنها مدمرة، مثل أفغانستان، وسوريا وإلى آخر القائمة الطويلة؟
أ.ح: نادراً ما ترى المجتمعات أنفسها مدمرة. هم يدركون حجم الدمار الهائل الذي يحيط بهم لكن مقاومتهم هي ما يبقيهم أحياء. إن مفهوم تدمير شعب كامل هو جزء لا يتجزأ من اللاإنسانية التي تشجع الحرب والاحتلال. في العراق، أصبح حجم الدمار الذي سببته عقود من الحروب، والديكتاتورية، والعقوبات، والاحتلال أكبر من حجم الحياة ذاتها. لقد تم بالفعل تدمير ظروف المعيشة، والخدمات الأساسية، والبنى التحتية، لكن الإصرار على الحياة والمقاومة تبقى التراث الحقيقي للعراق. مقال نضال يسلط الضوء على قوة الناس العاديين في مواجهة آلة القتل. إنها قصة تنسج نفسها في أفغانستان وفلسطين وسوريا وفي أماكن أخرى تعاني من عنف ودمار هائلين.
ع.ع: ما هو الجديد على شكوماكو؟
أ.ح: نحن مطبوعة صغيرة جداً تديرها مجموعة من المتطوعين، ونحن نسعى دائماً لتوسيع دائرتنا وضم مزيد من الأشخاص إلينا، سواء كمساهمين أو كمشاركين في إدارة المجلة. نحن نعمل مع كتاب من خلفيات مختلفة ويحملون مهارات متنوعة يريدون مشاركة منبرنا هذا مع أشخاص قد يترددون في كتابة قصة، أو تحرير قصة صوتية، أو صناعة فيلم. نحن أيضاُ في طريقنا لإطلاق منصة عمل أكثر ديناميكية لتترافق مع المجلة الرئيسة ومع القصص الأكثر عمقاً التي نعرضها على الموقع.
من ديالى إلى ديربورن، قصص العراق لا تنتهي.
نحن باتنظار اسئلتكم، افكاركم ومداخلاتكم حول الموقع على العنوان التالي:
[ترجمة علي أديب. اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية]